وأشهد- وأُشهد الله- أنني ما رأيت الشيخ سيد الشهير بـ"الإمام الأكبر" إلا وترحَّمت على شيوخ الأزهر السابقين. وليس بيننا وبين الرجل عداوة، ولكننا نعادي كل ما يعترض طريق الحق، ويساير طريق الباطل وكأنه لم يسمع أو يقرأ قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي"، بعد أن استبدل به كلمة أخرى تقطر بالشر وهي "أيها السلطان إن كنت راضيًّا عنا فلن نبالي".
ولسنا نفتري على الشيخ "الأكبر" ولن نقوم- في السطور الآتية- بأكثر من استعراض بعض "عطاءاته" في فتاواه وآرائه، وكلها- بل قليل منها- يقطع بأن سلوك الشيخ الأخير مع السفاح المجرم بيريس إنما هو امتداد طبعي لعطاياه السابقة "المضروبة" فكرًا وآراءً وفتاوى:
1- اتهامه للشيخ حسن نصر الله بأنه مصاب بجنون العظمة؛ لأنه- على حد قول الشيخ- يريد أن يكون مثل صلاح الدين، كما وصفه بالمقامر.
2- إباحته ربا البنوك كتابةً، وفي إحدى المحطات الفضائية, مع أنه في العشرين من فبراير سنة 1989م- وكان مفتيًا لمصر- أصدر فتوى صريحة جدًّا بتحريم ربا البنوك، جاء فيها "وأجمع المسلمون على تحريم الربا، بما في ذلك إيداعات البنوك، أو إقراضها، أو الاقتراض منها مقابل فائدة". وفي 8 سبتمبر 1989م أصدر فتوى ينقض فيها فتواه السابقة، واعتبر أن الفائدة رزقًا منحه الله لعباده.
ونستعرض هذه الحال لنرى أن الشيخ اتخذ من سلوكه الشخصي دليلاً على صحة فتواه الأخيرة "بتحليل ربا البنوك"، فهو يقول لمضيفه الصحفي كرم جبر بإحدى المحطات الفضائية في سياق تحليله لربا البنوك "أنا كنت أستاذ في السعودية أقبض في الشهر 17 ألف ريال.. كنت باخد المبالغ دي وأحطها في البنك، ويدخل لي منها "ريع" كبير باكل منه لحد الوقتي. الله!! رزج "يقصد رزق" ربنا يعتهولي أرفضه؟!.
وكأني بالشيخ قد نسي- أو تناسى- قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ (المائدة: 88). ونسي- أو تناسى- قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾ (البقرة: 172)، ونسي- أو تناسى- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (المؤمنون: 51)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (البقرة: 172).
3- أباح الشيخ للحكومة الفرنسية إرغام الطالبات المسلمات على خلع الحجاب في المدارس؛ لأن هذا- على حد قوله- شأنٌ خاص بهم.
4- كان هو الوحيد في تاريخ المشايخ الذي وصف المسلمين بأنهم أمة من الرعاع (والرعاع لغة: الغوغاء والسفلة والأوغاد والأنذال والساقطون). وهو وصفٌ لا يتردد إلا على ألسنة الصهاينة، كما جاء على لسان الشاعرة "الإسرائيلية" "آنا نجريتو".
5- وفي أهرام الجمعة 9/8/2002م يسأل صحفي "الشيخ سيد طنطاوي" عن: رأيه في إقامة التماثيل للزعماء، وخصوصًا الزعماء المصريين الثلاثة: عبد الناصر، والسادات، ومبارك؟ فقال كلامًا نصه "إقامة التماثيل للزعماء عادة لبعض الأمم، وقد يكون الأفضل لتكريمهم أن توجه المبالغ التي تنفق عليها لإنشاء مؤسسات خيرية تحمل أسماء الزعماء. وإن كانت إقامة تماثيل لهم لا تؤدي إلى ما يمس العقيدة من إخلاص العبادة لله وحده، فلا بأس من إقامتها، ولا حرمة في ذلك كلون من ألوان تكريم هؤلاء الزعماء الذين أدوا خدمات جليلة لأمتهم, لأن رؤية تماثيل هؤلاء الزعماء في كل وقت قد تؤدي إلى الاقتداء بهم في أن يؤدي كل إنسان رسالته بأمانة واستقامة وشرف".
ويسأله الصحفي: وهل إقامة التماثيل بهذا المعني الطيب لا تكون إلا بعد الرحيل؟ وكانت إجابة الشيخ: مع أن هذا الذي جرى عليه العرف, إلا أنه لا فرق بين أن تقام هذه التماثيل للزعماء وهم في حياتهم, وبين أن تقام بعد فراقهم "فالعبرة بما تنطوي عليه من حكمة".
وفي إيجاز شديد أناقش هذا الرأي- أو الفتوى- الطنطاوية في النقاط الآتية:
أ- التمثال الواحد يتكلف قرابة 15 مليون جنيه. ألا يُعَد هذا سفهًا وتبذيرًا في أمة الفقر والمرض والضياع؟
ب- أخطأ الشيخ إذ جعل استبدال المشروعات الخيرية بإقامة التماثيل من قبيل التفضيل "أو الأولوية" مع أنه فرض وواجب.
ج- وهل عُرف الأمم الأخرى يُلزمنا- نحن المسلمين- وأنت تعلم أن من الأعراف ما هو صالح وفاسد؟
د- كيف تبيح- يا شيخ سيد- إقامة التماثيل في حياة أصحابها, ألا تعلم أن "المعاصرة حجاب"؟ وهل ننسف التمثال إذا تحول صاحبه إلى عميل أو لص أو خائن؟
هـ- وهل النظر إلى تمثال الزعيم يدفع إلى الاقتداء به في أعماله الطيبة الرائعة؟ ألا يمكن أن يقوم العكس, ويبصق المواطنون على تمثال حاكم ظالم مستبد تأخر بمسيرة الوطن؟
و- وإذا كان الشيخ مقتنعًا بفتواه هذه فلماذا لا يتبنى دعوة لإقامة تماثيل للأفذاذ الأحياء, ومنهم طبعًا شيوخ على رأسهم فضيلته؟
7- ونحن نعلم أن الأزهر جامع وجامعة عالمية للمسلمين في كل مكان. وحينما أصدرت لجنة الفتوى بيانًا قضت فيه بحرمة التعامل مع مجلس الحكم العراقي الذي عيَّنه الأمريكان... أعداء الإسلام والعرب، رأينا الشيخ سيد "الأكبر" يقف في وجه هذه الفتوى ويصفها بأنه رأي شخصي، وأن الأزهر لا علاقة له بما يدور في العراق، وأن علماء العراق هم الأعلم بواقع وطنهم، ومن ثم فهم الأحق والأجدر بالإفتاء في هذه الأمور، أما دور الأزهر فيقتصر على مصر فقط، ولا علاقة له بما يدور حوله"!!.
أليست هذه دعوة إلى تمصير الأزهر؟ وهذا ما لم يقل به أحد حتى أعداء الأزهر على مدار التاريخ. وكأن المطلوب من العالم ألا يتعامل مع الأزهر إلا كأية كلية أو معهد مصري عالٍ، بصرف النظر عن طبيعته ورسالته.
8- نسي الإمام "الأكبر" قاعدة بلاغية ولغوية خلاصتها: أن البلاغة هي مراعاة مقتضى الحال، أي: وضع الشاهد من قرآن، أو سنة، أو مأثورات عربية في مكانه ومناسبته. فلو فرضنا أن الإمام "الأكبر" لم يقصد جلد الصحفيين بناءً على آية القذف ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 4).
فهو لم يراعِ مقتضى الحال، وكان عليه أن يتحدث أو يستشهد بآيات وأحاديث عن حد السرقة، والتزوير، وقول الزور، والتزييف، والديكتاتورية، وتعذيب المواطنين، وهتك أعراضهم، والظلم، فكل آية أو حديثٍ يتناول جريمة من هذه الجرائم، هو أولى بأن يتناوله الشيخ "الأكبر" بالإعلان عن إغضابه لله، وعدم استجابة دعوته في ليلة القدر، وغير ليلة القدر.
9- يعرف المسلمون جميعًا.. بل العالم كله أن بعض الصحف الدنماركية قد نشرت رسومًا كاريكاتيرية تسخر من رسولنا صلى الله عليه وسلم. والتقى شيخ الأزهر "بيارن سورتش" سفير الدنمارك بالقاهرة. وتحدث إليه حديثًا رقيقًا طريًّا مؤداه "أنه يرفض الإساءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنه فارق الحياة- أي مات- ومن ثم لا يستطيع الدفاع عن نفسه, ويجب عدم الإساءة إلى الأموات بصفة عامة سواء أكانوا من الأنبياء أم المصلحين, أو غيرهم الذين فارقوا الحياة الدنيا".
ولم يكن ينقص الشيخ سيد استكمالاً لحديثه أو تبريره هذا الطري إلا أن يقول للسفير: "ومن الأقوال الحكيمة اذكروا محاسن موتاكم. والضرب في الميت حرام".
لقد ساوى الشيخ بين الرسول صلى الله عليه وسلم والآخرين, من المصلحين وغيرهم, وهذه سقطة, قد لا يستغربها كثيرون منه. وكنا نتمنَّى أن يكون في إباء الدكتور علي جمعة وشموخه الإسلامي وهو يقول للسفير الدنماركي: "إنه لا يمكن القول إننا نرفض الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه مات وفارق الحياة, لأن الرسول لا يزال حيًّا في نفوس جميع المسلمين, ولم يَمُتْ, ونقتدي به كمسلمين في حياتنا اليومية".
ويحتج رئيس الوزراء الدنماركي, وكبار المسئولين, بأن محمدًا ليس مقصودًا لذاته, وأن حرية الفكر والرأي والتعبير حق لكل مواطن في الدنمارك دون قيد أو حرج.
ولكنَّ هناك سرًّا خطيرًا يجهله الشيخ طنطاوي ومن دار في فلكه، وهو أن ما حدث لا علاقة له بحرية فكر أو تعبير لأن هذه السخرية قُصد بها نبينا, ولا سابقة لها مع غيره, وهو ما كشفته صحيفة (البوليتكن)- كبرى الصحف الدنماركية- من أن صحيفة (يولاندس بوستن) التي عرضت الصور الساخرة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. هذه الصحيفة رفضت سنة 2003م نشر رسوم كاريكاتيرية عن النبي عيسى عليه السلام بحجة أنها تسيء للمسيحيين. فلما جوبه بهذه الحقيقة الصحفي "كارستن بوسته" الذي نشر الصور المسيئة لنبينا صلى الله عليه وسلم... كان جوابه أنه لا يتذكر هذا الأمر.