الموت
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.. أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ الأمةَ، وكشف الله به الغمة ، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصلى اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين...
أما بعـد:-
فحيَّا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وذكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور.
طبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا.
حياكم الله جميعاً وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنى وإياكم في الدنيا دائما وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته.
إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شىء قدير..
أما بعـد:-
فإن أصدق الحديث كتاب الله ،وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتى فى اللـه:
فى رحاب الدار الآخرة
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمى والأسلوب الوعظى تبدأ هذه السلسة بالموت وتنتهى بالجنة.
وقد تحتاج هذه السلسلة إلى جهد شاق حتى تتضح لنا معالمها، لذا فإن الموضوع جد خطير ومن الأهمية بمكان، لذا استحلفكم باللـه الذى لا إله إلاَّ هو.. أن تعيرونى قلوبكم وعقولكم وأسماعكم حتى نقف على أهميتها ونسأل اللـه التوفيق، ونسأله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنه ولى ذلك والقادر عليه ويجعلنا من الذين قال فيهم اللـه الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللـه وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ [ الزمر: 18 ].
أيها الأحبة الكرام:
وسوف أستهل هذه السلسلة بالحديث عن الموت، فهذه هى المرحلة الأولى فى هذه الرحلة الطويلة.
أيها الأخيار الكرام:
لقد بين اللـه جل وعلا لنا الغاية التى من أجلها خلقنا فقال سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [ الذاريات: 56 ].
بل وبين لنا حقيقة الدنيا التى جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ [ الحديد: 20 ].
وأكد الحبيب المصطفى هذه الحقيقة فى حديثه الصحيح الذى رواه الترمذى من حديث سهل بن سعد الساعدى قال ((لو كانت الدنيا تعدل عند اللـه جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء))([1]).
فالدنيا حقيرة عند اللـه أعطاها للمؤمن والكافر على السواء، فلو كانت تزن عند اللـه جناح بعوضة ما سقى منها كافراً قط شربة ماء واحدة، لذا كان المصطفى يوصى أحبابه بعدم الركون والطمأنينة إلى هذه الدار الفانية لا محالة، كما أوصى بذلك عبد اللـه بن عمر رضى اللـه عنهما كما فى صحيح البخارى
(كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".
ورحم اللـه من قال:
إن للـه عبــــــاداً فطنا طلقوا الدنيا وخافـــوا الفتنـا
نظروا فيهــــا فلما علمـوا أنها ليست لِحَـىٍّ وطنــــاً
جعلوها لُجَّــــــة واتخذوا صالح الأعمـال فيهـا سُفْنــا
فالفطناء العقلاء هم الذين عرفوا حقيقة الدار، فحرثوها وزرعوها... وفى الآخرة حصدوها.
فالـذم الوارد فى القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل ونهار فلقد جعل اللـه الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والذم الوارد للدنيا فى الكتاب والسنة لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ أن اللـه قد جعل الأرض لبنى آدم سكناً ومستقراً.
والذم الوارد فى القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها اللـه عز وجل من خيرات، فهـذه الخيـرات نعم اللـه على عبـاده وجميع خلقه.
إنما الذم الوارد فى القرآن والسنة يرجع إلى كل معصية ترتكب فى حق ربنا جل وعلا.
إذاً لابد وحتما من تأصيل هذا الفهم الدقيق لا سيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد فى هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نُقنَّتْ أحداً من هذه الدنيا، ولا نريد أن نثبت لعامل فى هذه الدنيا ولو كان فى الحلال أنه قد تجاوز عن طريق الأنبياء والصالحين والأولياء... كلا..! كلا..!!
بل الدنيا مزرعة للآخرة.
تدبر معى قول على رضى اللـه عنه وهو يقول: " الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحى الأنبياء ومصلى أنبياء اللـه ومتجر أولياء اللـه ".
فالدنيا مزرعة للآخرة فتدبر معى هذا الحديث الصحيح الذى رواه البخارى ومسلم من حديث أنس قال: قال النبى : ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة))([2]).
إذاً لابد من هذا التأصيل والفهم العميق لحقيقة الدنيا، لننطلق من هذه الدار الفانية إلى دار تجمع بين سلامة الأبدان والأديان..دار القرار.
فلابد قبل العبور إلى دار القرار من المرور من دار الفناء، فالدنيا دار ممر والآخرة هى دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل حبور، الدنيا دار فناء لا دار بقاء، لابد من وعى هذه الحقيقة التى لا مراء فيها، لنزرع هنا بذوراً، لنجنى هنالك ثماراً.
فاعلم أيها الحبيب هذه الحقائق جيداً، وكن على يقين جازم بأن الحياة فى هذا الدنيا موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتى نهايتها حتماً لابد، فيموت الصالحون.. ويموت الطالحون.. يموت المجاهدون.. ويموت القاعدون.. يموت المستعلون بالعقيدة.. ويموت المستذلون للعبيد.. يموت الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، والجبناء الحريصون على الحياة بأى ثمن.. الكل يموت.