الشباب في الإسلام
ما أعظم مكانة الشباب في الإسلام، والمتابع لأحداث التاريخ الإسلامي يجد أن معظم حركات التغيير في تاريخ الأمة كانت على يد الشباب، وليس هذا من قبيل المصادفة، بل هي سنة مطردة، وحدث متكرر..
وراجعوا معي التاريخ الإسلامي..
عندما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلى من توجه برسالته؟
من هم الذين حملهم تبعة هذا الدين؟
من هم الذين ائتمنهم على حمل الإسلام؟
من هم الذين اعتمد عليهم في تغيير نظام الحياة في مكة كلية.. بل في تغيير نظام الحياة في الأرض بكاملها، وليس في زمانه فقط بل وإلى يوم القيامة؟
من هم السابقون السابقون؟
من هم أفضل أجيال الأرض، والذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الذي رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ
من هم الذين سيواجهون جبابرة وطغاة مكة، وطواغيت الجزيرة العربية، ثم سيدوكون بعد ذلك حصون وقلاع فارس والروم، ويزلزلون عروش كسرى وقيصر؟
من هم الذين سيسبحون ضد التيار في كل هذه البحار المشركة؟
من أيها الشباب؟!
راجعوا التاريخ، واقرءوا السيرة، واطلعوا على هذه النماذج...
الزبير بن العوام رضي الله عنه:
حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفارس الإسلام، والبطل المغوار، والدعامة الثابتة للدعوة الإسلامية..
كم كان يبلغ من العمر وقت إسلامه؟
إنه كان في الخامسة عشرة من عمره!!
أي أنه لو كان في زماننا لكن في الصف الثالث الإعدادي أو الأول الثانوي على الأكثر..
ونظرة إلى شبابنا في الإعدادية!..
هل طالب الإعدادية الآن يفكر ويحلم ويتمنى ويعمل كما كان الزبير بن العوام رضي الله عنه يفكر ويحلم ويتمنى ويعمل؟
لابد أن هناك خلل..
ولابد من وقفة للحساب والمراجعة..
لماذا يخلو ذهن طالب الإعدادي أو الثانوي أو حتى الجامعة من كل ما هو مفيد، ولا يبقى في ذهنه إلا بعض الأفلام الساقطة، والأغنيات الهابطة، والألعاب السخيفة؟ لماذا يبقى الشاب ساعات وساعات أمام شاشات التليفزيون والإنترنت والفيديو جيم، ويبقى الساعات والساعات في صالات البلياردو وعلى كورنيش النيل، ولا يصرف من وقته ساعة لدين أو لعلم أو لفكر أو لرحم أو لدعوة أو لغاية نبيلة، أو مهمة جليلة؟
لابد من وقفة!!
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه:
أحد الدعامات الرئيسية لجماعة الإسلام الناشئة في مكة، وأحد كبار الدعاة إلى الله، وأحد الفرسان المشهود لهم بالكفاءة والمهارة والشجاعة والإقدام، وأحد أعلام الإنفاق في سبيل الله، والذي أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقب طلحة الخير
هذا الصحابي الجليل العظيم كان عند إسلامه في السادسة عشر من عمره!!
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
الصحابي العملاق.. أول من أراق دماً في الإسلام، والوحيد الذي فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، حيث قال له يوم أحد:
ارم سعد، فداك أبي وأمي، وذلك فيما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
سعد بن أبي وقاص المجاب الدعوة، والميمون النقيبة، والعظيم الأثر..
كم كان عمره عند إسلامه؟
لقد كان في السابعة عشرة من عمره!!
الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي رضي الله عنه:
الرجل الذي يحمل اسمه ذكريات عظيمة هائلة لكل مسلم، فهو الذي استضاف الدعوة الإسلامية في بيته ـ على خطورة هذا الأمر ـ ثلاثة عشر عاماً كاملة في مكة، مع الأخذ في الاعتبار أنه من بني مخزوم، وهي القبيلة التي تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم، وهو يستضيف الرسول الهاشمي في بيته، ولا شك أن ذلك سيسبب له حرجاً بالغاً مع زعماء قبيلته وأقاربه، ولا ننسى أن زعيم قبيلة بني مخزوم هو أبو جهل شخصياً، وهو أعتي عتاة الإجرام والبطش في مكة، وهو فرعون هذه الأمة، ولو أدرك أن واحداً من قبيلته يستقبل في بيته الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكانت الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، ومع كل ذلك فقد قبل الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه بهذه المخاطرة، وضحى بنفسه هذه التضحية البالغة من أجل الإسلام..
كم كان يبلغ من العمر هذا البطل العظيم عند إسلامه؟!
لقد كان في السادسة عشرة من عمره!!
هل هذا معقول؟!
نحن عندما نقرأ هذه الأسماء الخالدة.. الزبير وطلحة وسعد والأرقم رضي الله عنهم أجمعين، نعتقد أننا نتعامل مع رجال كبار جداً.. والواقع أننا فعلاً نتعامل مع رجال كبار جداً، ولكن ليسوا كباراً في السن، وإنما هم كبار في المقام وفي العقل وفي الجهد وفي الإيمان وفي العمل وفي الأخلاق.. هؤلاء الشباب كانوا رجالاً كباراً بمعنى الكلمة، وهم في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو السابعة عشرة من أعمارهم..
علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وما أدراك من علي بن أبي طالب رضي الله عنه!!
إنه الطفل الذي كان في العاشرة من عمره.. فقط في العاشرة!!
وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إليه بالرسالة، ويسر بها إليه!!
سبحان الله!!
إن هذا يحمل معنى هائلاً لابد أن نقف أمامه.. وهو أن عقل هذا الطفل الصغير غير المكلف يستوعب أموراً هي من الدقة بحيث قد تخفى على عقول بعض الشيوخ.. لقد استوعب هذا الطفل فكرة الوحدانية، وفكرة النبوة والرسالة، وفكرة الوحي والملائكة، وفكرة البعث يوم القيامة، وفكرة الجنة والنار، وفكرة العمل لله، والحياة في سبيل الله، بل والموت في سبيل الله..
لقد استوعب كل ذلك وهو في العاشرة من عمره!!
وفقه هذا الطفل أيضاً في هذه السن الصغيرة سرية المرحلة، وتعلم كيف يخفي أموره عن أقرب الأقربين إليه، وكيف يتجه سراً إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، وكيف يصلي في خفاء، ويقرأ القرآن بعيداً عن أعين الناس..
إن عقل الطفل الصغير لهو أوسع من تخيلاتنا بكثير..
بعض الآباء والمدرسين والمربين يشفقون على الأولاد من المعلومات المكثفة، أو من الواجبات الثقيلة، فيكتفون بحشو هذا العقل ببعض القصص التافهة وأفلام الكارتون، وألعاب الكمبيوتر، وأسماء اللاعبين والفنانين والفنانات، وهم بذلك يهدرون طاقات لا حصر لها.. ويُقلصون من إمكانيات عقلية هائلة عند الأطفال..
وليس علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثالاً أوحداً للطفل النجيب في الإسلام، فالأمثلة فعلاً قد يتعذر سردها لكثرتها، فما من طفل من أطفال الصحابة إلا وله موقف ومواقف تدل على سعة إدراكه، ودقة فهمه، وجلاء بصيرته..
زيد بن ثابت رضي الله عنه:
ترى ما هي أحلام هذا الطفل العظيم الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، وكان لم يبلغ الحلم بعد، وكان صغير البدن، قليل البنية؟
لكن ـ سبحان الله ـ مع صغر سنه، وصغر بدنه إلا أنه كان مشغولاً بأمته الإسلامية انشغالاً تاماً.. لقد سمع الطفل زيد أن جيش المسلمين يستعد للخروج إلى بدر للقاء المشركين، فتحركت الحمية لهذا الدين في قلبه الصغير الحجم، الكبير القدر، فحمل سيفه، وكان السيف أطول منه!! وذهب لينضم إلى جيش المسلمين!!
هذا الطفل الصغير ـ غير المكلف ـ كان يسعى بصدق إلى الجهاد!.. لقد استوعب عقله قضية الجهاد في سبيل الله، ولقاء الأعداء، ونصرة دين الله، وتحمل الآلام والجراح والمشقة في سبيل رفعة هذه الأمة وسيادتها..
ولكن الطفل الصغير الطموح فوجئ مفاجأة قاسية عند ذهابه لمكان تجمع الجيش، فقد استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من المجاهدين، فوجد أنه صغير في السن والجسم فخاف عليه الهلكة، فرده ولم يقبله في الجيش..
وكانت هذه مأساة حقيقية لزيد بن ثابت رضي الله عنه!!
لقد عاد إلى أمه النوار بنت مالك رضي الله عنها وهو يبكي من شدة الحزن!..
ووقفة مع الحدث..
لقد كان الالتحاق بجيش المسلمين أمنية ومطمحاً عند زيد بن ثابت وعند أطفال وشباب المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.. لأن غاية الجيش كانت واضحة، ومهمته نبيلة، والتعامل فيه بين القائد والجنود على أساس التقوى والإسلام..
أما عندما فُرغت الجيوش من قيمتها، وضُيعت أهدافها، واضمحلت غاياتها، وساءت فيها معاملة القواد لجنودهم، فإن الحال تغير أقصى درجات التغيير، حتى رأينا شباب اليوم ـ وهو معذور ـ يقيم الأفراح، ويتلقى التهنئة، إذا أفلح في أخذ الإعفاء من الجيش، ولو عن طريق الكذب أو الوساطة أو الرشوة أو غير ذلك من الأمور غير المشروعة، بل قد لا يستنكر الشاب أن يذكر أمام القاصي والداني أنه قريب الضابط فلان أو الوزير فلان، وأنه قد توسط له ليُعفى من الجهاد والجندية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
ونعود إلى الطفل العملاق زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد عاد إلى أمه يبكي ويقول: لقد منعني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهاد..
لكن الأم العاقلة المربية الفاهمة لدينها المدركة لمواهب ابنها، قالت له: لا تحزن، تستطيع أن تخدم الإسلام بصورة أخرى، إن لم يكن بالجهاد بالسيف، فليكن بالجهاد باللسان والقلم!!
لقد لفتت الأم الداعية النوار بنت مالك رضي الله عنها نظر ابنها ـ كما لفتت أنظارنا ـ إلى أن مجالات العمل لله واسعة ومتشعبة، وأن إمكانيات البشر مختلفة ومتفاوتة، وأن الذي لا يستطيع أن يؤدي في مجال يستطيع أن يبدع في مجال آخر.. وكل ميسر لما خلق له..
قالت الأم الذكية لابنها المتحمس: أنت تتقن القراءة والكتابة - وهذا نادر في ذلك الزمن ـ وأنت تحفظ كثيراً من سور القرآن الكريم حفظاً جيداً، فلنذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنرى كيف يمكن أن نوظف هذه الطاقات لخدمة الإسلام والمسلمين..
يالروعة التفكير، وصدق الاجتهاد، وعمق النظرة!!
وذهبوا بالفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض الرجال من قبيلتهم، وهم جميعاً يرجون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبل زيد بن ثابت رضي الله عنه في عمل يخدم الإسلام والمسلمين..
قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا نبي الله، هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة، وهو يريد أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك، فاسمع منه إن شئت..
فاستمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيد رضي الله عنه، واكتشف مهارته وقدرته على الحفظ، وقدر قيمة المهارة التي يتقنها زيد رضي الله عنه فوق الحفظ وهي مهارة الكتابة والقراءة، ولم يستصغر سنه، أو يقلل من شأنه، بل طلب منه طلباً لا يطلب الآن إلا ممن أمضى مشواراً طويلاً في العلم والتعليم والدراسات.. لقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا زيد، تعلم لي كتابة اليهود، فإني لا آمنهم على ما أقول
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه بتعلم لغة أجنبية هامة في ذلك الوقت، ولأغراض سياسية هامة قد تؤثر تماماً على سير العلاقات الدبلوماسية والحربية بين أمة الإسلام واليهود.. هذا مع كون زيد بن ثابت رضي الله عنه في الثالثة عشرة من عمره!
وقد صدق حدس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن زيداً رضي الله عنه أكب على دراسة اللغة العبرية فأتقنها في وقت يسير جداً، وصار يتكلمها ويكتبها كأهلها، ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يتعلم أيضاً اللغة السريانية، وكانت من اللغات الدارجة في ذلك الزمن، فتعلمها زيد رضي الله عنه، وصار بذلك ترجمان الدولة الإسلامية، والشريك الدائم في أي مفاوضات أو مراسلات بين القبائل الأجنبية والدولة الإسلامية..
كل هذا وهو في الثالثة عشرة من عمره!!
هل رأيتم إمكانيات الشباب؟!
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم اطمأن إلى إتقانه أكثر وأكثر، فأمنه على ما هو أخطر من المراسلات والعلاقات الدبلوماسية، لقد أمنه صلى الله عليه وسلم على وحي السماء، فطلب منه أن يكتب القرآن، فكان إذا نزلت عليه مجموعة من الآيات طلب زيداً رضي الله عنه، وقال له: يا زيد، اكتب، فيكتب زيد رضي الله عنه، فصار بذلك من كتبة الوحي..
ومرت الأيام، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعر المسلمون بالمأزق الخطير الذي قد يتعرضون له إذا فقدوا آية أو آيات من القرآن الكريم، فالقرآن الكريم لم يكن مجموعاً في كتاب واحد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُخشى على الأجيال القادمة أن تفقد جزءاً من القرآن، أو على الأقل تفقد ترتيبه، وهنا أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بجمع القرآن في كتاب واحد، وبعد مناقشات ومحاورات قبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه الفكرة، ولكن تبقى مشكلة خطيرة، فعلى أكتاف من ستلقى هذه التبعة الضخمة، ولم يجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفضل من زيد بن ثابت رضي الله عنه ليقوم بهذه المهمة الخطيرة جداً، فهو إلى جانب كونه يتقن القراءة والكتابة، فهو كان من كتبة الوحي، ويعلم دقائقه، ومتى نزلت الآيات، وكيف نزلت، ولأي سبب نزلت، وترتيب نزولها، وكيفية جمعها مع الآيات السابقة واللاحقة..
وهكذا كلف زيد بن ثابت بهذه المهمة الشاقة جداً، مع كونه وقت جمع القرآن كان في الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين فقط من عمره، أي أنه لو كان في زماننا فإنه لن يكون قد انتهى بعد من دراسته الجامعية، ومع ذلك فقد وضعت على أكتافه مهمة لا توضع إلا على أكتاف الأساتذة والمعلمين البارعين المتميزين، وهذا في وجود العدد الضخم من شيوخ الصحابة والسابقين إلى الإسلام.. ولكنه قُدم عليهم جميعاً بكفاءته ومهارته وقدراته الهائلة مع كونه شاباً صغيراً..
يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه:..
والله، لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن
ومع ذلك نجح الشاب الصغير زيد بن ثابت رضي الله عنه في المهمة الجليلة التي تحتاج جيلاً كاملاً من العلماء..
وحقاً.. ما أعظم إمكانيات الشباب!!..
معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما، ومعوذ بن عفراء رضي الله عنهما:
وهذا الشابان الصغيران جداً كان لهما من الأثر ما لا يتخيله أحد أو يستوعبه، فالأول في الرابعة عشرة من عمره والثاني في الثالثة عشرة من عمره، ومع ذلك فهما يسارعان بالانضمام إلى جيش المسلمين المتجه إلى بدر، وعلى عكس زيد بن ثابت رضي الله عنه فإنه كان يبدو عليهما كبر السن نسبياً، وقوة الجسد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلهما في الجيش المقاتل..
ومع كونهما في هذه السن الصغيرة لكن سبحان الله كان طموحهما أكبر بكثير من طموح كثير من الرجال أو الشيوخ!..
وأترك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كما جاء في البخاري يصور لنا موقفاً عجيباً لهذين الشابين العملاقين حقاً!
يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه :
إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا على يمني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهم..
وهما معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما، ومعوذ بن عفراء رضي الله عنهما..
فعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يتعجب من وجود هذين الغلامين الصغيرين في معركة خطيرة كبدر، ولم يشعر بالأمان لأنه لو هجم عليه أحد المشركين فلن يجد ـ في اعتقاده ـ مساندة أو مساعدة ممن حوله لصغر عمرهما..
ثم يكمل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فيقول متعجباً:
إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل
وكان هذا الذي تكلم هو معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما، وهو من الأنصار، فلم يكن قد رأى أبا جهل قبل ذلك، ولفت نظر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا السؤال عن قائد جيش المشركين، وجبار مكة، وفرعون هذه الأمة، فسأل الغلام الحدث: يا ابن أخي، فما تصنع به؟
فرد الغلام الصغير رداً أذهل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه!..
قال معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا!!
يا الله!!
كم هو خالد هذا الموقف!!
الغلام الصغير الذي يعيش في المدينة المنورة، سمع أن رجلاً يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة على بعد حوالي خمسمائة كيلومتر من بلده، فتحركت الحمية في قلبه، والغيرة على حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرر أن يفعل شيئاً يدافع به عن معتقداته ومقدساته، وجاءت الفرصة في بدر عندما جاء الله عز وجل بأبي جهل إلى بدر، ليسهل على الغلام الصغير أن يلتقي بأبي جهل.. فقرر أن يقتله بنفسه!!
إنه أقسم قسماً مغلظاً إنه لو رأى أبو جهل فلن يتركه حتى يموت واحد منهما!!
إنه لم يجعل حلمه أن يشارك فقط في بدر، ويقوم بمهمة التمثيل المشرف وكفى!!
ولم يكتف بأن يحلم بقتل أحد المشركين وكفى!!
ولكن جعل حلم مستقبله، وقضية حياته، وهدف عمره أن يقتل هذا الطاغية، وإن كان الثمن أن يموت هو في سبيل الله!!
يا سبحان الله!!
كان من الممكن ببساطة ـ ولن يلومه أحد ـ لو قال في نفسه أقاتل رجلاً بسيطاً عادياً من المشركين، وأترك مهمة قتل هذا الزعيم الكبير لأحد صناديد الجيش الإسلامي، أو أحد الفرسان المشهود لهم بالكفاءة في القتال.. لكن سبحان الله، كانت همته كالقمم الشامخة..
ولم يكن هذا موقفاً عادياً.. بل كان موقفاً عجيباً حقاً.. حتى إن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: فتعجبت لذلك!..
ولكن عجب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لم يتوقف عند هذا الحد، فمعاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما لم يكن حالة فردية شاذة في الجيش المسلم، إنما كان له قرين مسلم صالح في مثل سنه أو أصغر، ينافسه في نفس القضية..
يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:
وغمزني الآخر (معوذ بن عفراء رضي الله عنهما)، فقال لي مثله
ثم قال:
فلما أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه
ورأى البطلان الصغيران الرجل الذي أخبرا أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغلي الدم في عروقهما، وتأكدت عزيمتها على إنفاذ المهمة الجليلة التي طالما راودت أحلامهما وأفكارهما..
وأترك الكلام لمعاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما يصور الموقف الرائع، وذلك كما جاء في رواية ابن إسحاق، وفي طبقات ابن سعد رحمها الله..