حســن الخلــــق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله وصفية من خلقه وخليله أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة ، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن امته ورسولا عن دعوته ورسالته ، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه واتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بستنه واقتفى اثره إلى يوم الدين.
أما بعد .. فحياكم الله جميعا أيها الإخوة الفضلاء ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً ، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم - جلا وعلا - الذى جمعنا فى هذا البيت المبارك الطيب على طاعته أن يجمعنا فى الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى فى جنته ودار كرامته إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتى فى الله ... حُسن الخُلق يُحَب لذاته ، فكيف لو اجتمع مع حسن الخلق حُسنُ الخَلق ؟! ذلكم هو المصطفى . وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال : بعث رسول الله خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له : ثُمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربط الصحبة ثمامة بن اثار فى سارية – أى عمود من أعمدة المسجد النبوى – وهو من أعدى أعداء النبى يتفنن فى إيذاء رسول الله وفى الكيد للإسلام والمسلمين ، فلما دخل النبى ورآه مربوطا فى المسجد اقترب منه وقال له : " ما عندك يا ثمامة ؟" قال : عندى خير يا محمد إن تقتل تقل ذا دم – يعنى أنتبه إن قتلتنى قتلت رجلا له قبيلة وعشيرة ولن تترك قبيلته وعشيرته دمَه يضيع هدراً ابدا – إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تنعم على شاكر ، وإن أحسنت إلىَ وأطلقت سراحى لن أنسى جميلك ومعروفك أبدا ما حييت وإن كنت تريد المال فَسَل تُعطَ من المال ما شئت فتركه النبى .
وفى غير رواية فى الصحيحين أمر النبى الصحابة أن يحسنوا إليه ، وأراد النبى أن يظل ثمامة فى المسجد ، ليسمع القرآن وليرى النبى بين أصحابه وليسمع حديثه ، فدخل عليه فى اليوم الثانى وقال : " ماذا عندك يا ثمامة ؟ " قل : عندى ما قلت لك : إن تقتلْ تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت فتركه النبى ، ودخل عليه فى اليوم الثالث وقال : " ماذا عندك يا ثمامة ؟ " فأخبره بما قاله فقال النبى للصحابة : "أطلقوا ثمامة أى لا نريد مالا ولا جزاء ولا شكورا ولا نلزمه بالإسلام ولا نكرهه على الإيمان أطلقوا ثمامة " ففكوا قيده.
هذا الرجل الأصيل اغتسل فى حائط – أى فى بستان – بجوار المسجد وعاد إلى المسجد النبوى ؛ ليقف بين يدى الحبيب ليقول : أشهد أن لا إله إلا الله واشهد إنك لرسول الله. تدبر هذا الحوار الصريح قال ثمامة : يا رسول الله والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلىّ من وجهك ، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلىّ ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلىّ من دينك ، فأصبح دينُك أحبَّ الدين كله إلىّ ، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض إلىّ من بلدك فأصبحت بلدك أحبَّ البلاد كلها إلىّ ، يا رسول الله لقد اخذتنى خيلك وأنا أريد العمرة([1]) أو وهو الشرك والكفر فقد كانوا يحجون ويعتمرون إلى البيت وهم على الكفر والشرك.
كان أحدهم يلبى فيقول : لبيك اللهم ، لبيك لبيك لا شريك لك ، فإذا سمع النبى هذا النداء يقول : " قط قط " أى قفوا عند هذا الحد لا تزيدوا عليه ، ثم يزيد أحدهم فيقول : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك – ولو تدبر أحدهم فى الإضافة بتعقل لوجد الملك (هو لك تملكه وما ملك) أى ولا يملك لنفسه شيئاً.
ورحم الله من رأى يوما على صنمه بولا فنظر حواليه فوجد ثعلبا يلعب بالقرب من معبوده فعلم أن الذى فعل هذه الفعلة الشنعاء هو هذا الثعلب ، فنظر إلى إلهه والنجاسة تنسال من على وجهه ففكر وتدبر فى الأمر وقال بعقل راجح راشد :
ربٌ يبول الثُعلبان برأسه
لو كان رباً كان يمنع نفسه
برئت من الأصنام فى الأرض كلها
فقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلا خير فى رب نأته المطالب
وآمنت بالله الذى هو غالب
يقول ثمامة : يارسول الله لقد أخذتنى خيلك وانا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله – قال الحافظ ابن حجر : أى بشرة بخيرى الدنيا والآخرة ، أو بشره بالجنة أو بشره بمحو الذنوب والسيئات – ياله من فضل !! فبشره رسول الله وأمره أن يعتمر ، فانطلق ثمامةُ أول من رفع صوته بالتلبية فى مكة فقال قريش من هذا الذى اجترأ علينا – أى جهر بالتلبية بين أظهرنا – ؟ من هذا الذى أجترأ علينا ؟ فهو أولُ من جهر بالتلبية فى مكة فأخذته قريش وقالوا : من هذا الذى اجترأ علينا ؟ فأخذوه وضربوه ضربا شديدا حتى قال قائلهم : دعوه فإنه فلان فأنتم تحتاجون من الميرة اليمامة وعرفوا ثمامة.
وفى رواية ابن اسحاق : لما جهر ثمامةُ بالتلبية فأقبل عليه المشركون فضربوه وقال أبو سفيان : ألا تعرفون الرجل ؟ إنه ثمامة سيد أهل اليمامة فأنتم تحتاجون إلى الحنطة – أى القمح – والميرة من اليمامة ، فلما جلس ثمامة قال : والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة – أى حبة قمح – إلا أن يأذن رسول الله ،خلع الرجل رداء الكفر على عتبة الإيمان
أقول من أول لحظة دخل فيها ثمامة الإسلام جعل كل طاقاته وكل قدراته وإمكانياته فى خدمة التوحيد والإسلام ، وضع كل ما يملك من قدراته وطاقاته وإمكانياته فى خدمة الدين الذى أعتنقه وأنار الله قلبه به ، وبالفعل أدى العمرة.
وأود أن أقف أيضا مع جزئية أخرى فريدة ألا وهى أن أسر ثمامة كان سببا لنجاته ، وكان سبب سعادته فى الدنيا والآخرة ، لو علم أن أسره سيكون سبب سعادته فى الدنيا والآخرة لرحب به ، فلقد خرج ليؤدى العمرة على الشرك فأبى الله غلا أن يؤدى العمرة على التوحيد ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، إذا لابد أن تسلم لكل أقدار الله ، ولابد أن تعلم يقيناً أن قدر الله دائما هو الخير ، وقد ينظر أحدنا إلى قدر من وجهة نظره ، فيراه شرا عليه لكن الله جل وعلا يقول : ] وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[ [البقرة - 216]
كن عن همومك معرضا
وانعم بطول سلامة
فلربما اتسع المضيقُ
الله يفعل ما يريد
وكل الأمور إلى القضا
تُسليك عما قد مضى
وربما ضاق الفضا
فلا تكن متعرضا